01 يوليو 2013

آخر المقاهي الأدبية.. تنعي ماضيها التليد ومجدها الضائع

آخر المقاهي الأدبية.. تنعي ماضيها التليد ومجدها الضائع

 

مع كلّ رشفة جرعة ثقافة
قليلة هي اليوم المقاهي الأدبية الباقية فى إسبانيا، وفى البلدان العربية ، وفى أماكن أخرى من العالم ، الوحيدة التى مافتئت تقدّم لروّادها حتّى اليوم "جرعات ثقافة "مع كلّ فنجان ، بعضها القليل الباقي منها ما زالت تصارع الزّمن وتواجه الزوابع العاتية التي أصبحت تعصف بها من كل نوع من أزمات إقتصادية ، وإضطرابات إجتماعية ، إلى جانب انتشار التكنولوجيا المتطوّرة التي ملأت الأسواق والحياة العامة بالحواسيب ،والهواتف الذكيّة (سمارتفون)،والهواتف النقّالة التي أصبحت الشغل الشاغل لكل الناس من كل الأعمار والأجناس ، يضاف إلى ذلك دور السينما والمسارح والمقاهي العامة العادية، والنوادي الخصوصية التي يكثر ويعشعش في جنباتها كل ضرب من ضروب اللعب واللهو والتسرّي، وكل صنف من أصناف الورق والطاولة والنرد والشطرنج والدومينو والزّهر إلخ ، ناهيك عن الإنترنيت وتوابعه من الفيسبوك، والتويتر، واليوتوب، وكل ما يقدّمه من أفلام ووثائقيّات وفرجات وعروض مغرية مسلية ومثيرة ،وعن الفضائيات التي لا حصر لها والتي أمست تملأ الدنيا عرضا وطولا وهي لا تعدّ ولا تحصي ، وتشغل الناس وتثنيهم عن القيام بواجباتهم اليومية الضرورية .
مع هذا الزّخم الإعلامي والتكنولوجي الهائل والتلاطم أصبحت المقاهي الأدبية تحصى اليوم على الأنامل فى معظم مدن وعواصم العالم، والتي لم تعد تخيّم عليها سوى أجواء الكآبة والتعاسة والمعاناة والعزلة والوحدة والإنطوائية ووجع الدماغ، إنّها تنعي ماضيها التليد ومجدها الضائع، ويسترجع الناس ذكريات روّادها القدامى من الكتّاب والمبدعين التي تغصّ بها كتبهم ودواوينهم وألبوماتهم الخاصّة، وصفحات الجرائد والمجلات القديمة، وتظل الكراسي والطاولات والصّور المعلّقة على جدران المقاهي قدرا مشعلا على ثبج القلوب، وصحاف العقول شاهدة على مرور الزّمن وإنسيابه .
المنفلوطي والمقاهي
العواصم والمدن العربية الكبرى عرفت المقاهي الأدبية كذلك ، من منّا لايذكر مقاهى: الفيشاوي، ومتاتيا ، ومحمد عبد الله، وريش، والبوستة بمصر. والبرازيل، والهافانا بسورية ، وفلسطين،ومتري وفتوح أوشقيروالنجار،والمودكا بلبنان. وعمون، والشريف الدولي ، والفينيق، وشهرزاد بالأردن. والزهاوي بالعراق ، والعيّادي وتحت السور بتونس، وباليما بالمغرب ، والرمّانة بالجزائر، ومقهى الصعاليك بالقدس ..وسواها من المقاهي العربية المشهورة التي كانت ملتقى الأدباء والشعراء ، والمفكرين والفلاسفة ، وأهل الفنّ والموسيقى والمشتغلين بالسينما والمسرح إلخ .
مصطفى لطفى المنفلوطي كان نادرا ما يرتاد المقاهي، كان ينصح قرّاء "نظراته" و"عبراته" بعدم ضياع وقتهم بين لعب النّرد والطاولة والورق. كان يعيب على الناس إرتيادهم للمقاهي، ويعجب كيف لا يؤمّون المكتبات، ودور الكتب والمعرفة والعرفان للنّهل من العلم ، والغوص في بحوره. ومن مفارقات الحياة، أنّ العديد من الأدباء والشّعراء الذين جاءوا بعده من نفس طينته ، كانوا مولعين بالجلوس في المقاهي - وما أكثرها فى مصر- ومع ذلك أبدعوا ونبغوا وأجادوا ..!
آخر المقاهي الأدبية فى إسبانيا
مثلما هو عليه الشأن فى عالمنا العربي، فإن جارتنا إسبانيا عرفت هي الأخرى هذا النوع من المقاهي الأدبية التي لم تكن منتشرة فى العاصمة مدريد وحسب ،بل فى مختلف المدن إلإسبانية الأخرى، إلا أنّ معظم هذه المقاهي اليوم لم يعد لها وجود فى الوقت الرّاهن سوى فى مدريد ( مقهى خيخون) ، وبامبلونا (مقهى إيرونيا)، وسالامنكا (مقهى نوفيلتي).وذلك حسب دراسة طريفة نشرتها صحيفة " أ. بى. ثى" الإسبانية مؤخّرا ، جاء فيها :
مقهى إيرونيا ببابلونا
هذا المقهى الأدبي أسّس عام 1888 والكائن فى مدينة بامبلونا الواقعة فى شمال إسبانيا ( إقليم نافارّا) والمعروفة بحفلات "سان فيرمين " الشهيرة التي تطلق فيها الثيران الهائجة على عواهنها فى شوارع المدينة وأزقّتها فى إتّجاه ساحة المصارعة وهي تهرول وتجري فى جنون لا تلوي على شئ وراء أفواج من الشباب المتحمّس الذي يتحدّى الموت، وعادة ما يرتدى المشاركون فى هذه الحفلات الصاخبة القمصان البيض، ويلفّون المناديل الحمر حول أعناقهم ( تنظّم هذه الحفلات كل سنة من (6 يوليو حتى 14 من نفس الشهرالجاري).كان هذا المقهى أوّل مركز تجاري أدخل له التيّار الكهربائي فى تاريخ المدينة ، وأصبحت له شهرة عالمية بفضل الكاتب الأمريكي الذائع الصّيت " إرنيست همنغواي " (صاحب" العجوز والبحر" و" لمن تقرع الأجراس" ،وسواها من الأعمال الإبداعية الأخرى) الذي كان من أشهر روّاد هذا المقهى خلال موسم تنظيم حفلات سان فيرمين المذكورة، حيث زار هذه المدينة تسع مرّات، وكان هذا المقهى مكانه المأثور ، ولقد أطلق إسم همنغواي على ركن من أركان هذا المقهى، بل وأقيم مجسّم له بداخله إستذكارا وتكريما لهذا الكاتب الكبير الذي خلّد هذه المدينة ومقهاها الأدبي وحفلاتها الشهيرة كذلك فى روايته "الشمس تشرق أيضاً "( 1926 ) والتي أطلق عليها فيما بعد فى اللغة الإسبانية إسم " حفلة "، همنغواي حاصل على جائزتي بوليتزر (1953) و على نوبل فى الآداب ( 1954).
وما زال هذا المقهي محجّا وملتقى للعديد من الأدباء، والكتّاب ،والشعراء، والفنّانين، والسّاسة ،والمشتغلين بالسّينما والمسرح الذين يؤمّونه بانتظام كما كان الشأن أيّام إرتياد همنغواي له وقبله أيضا .
مقهى خيخون بمدريد
من غرائب الصّدف التي تواجهنا عند الحديث عن مقهى" خيخون " الشهير، كونه أسّس هو الآخر فى نفس العام الذي أسّس فيه مقهى" إيرونيا " المذكور آنفا وهو عام 1888، هذاالمقهى ذو أهميّة ثقافية كبرى فى التاريخ الإسباني المعاصر ، يوجد فى قلب مدينة مدريد بجوار المكتبة الوطنية الإسبانية (أكبر وأهمّ وأقدم المكتبات فى إسبانيا على الإطلاق) . (أنظر مقالي فى "القدس العربي" فى هذا الصدد العدد 7196 بتاريخ 3 أغسطس2012) . هذا المقهى الذي بدأ بداية متواضعة بعد تأسيسه فى أواخر القرن التاسع عشر سرعان ما أصبح بعد الحرب الأهلية الإسبانية (1936- 1939) من أهمّ المقاهي المعروفة الفخمة فى العاصمة الإسبانية التي إشتهرت بالإجتماعات واللقاءات والندوات الأدبية التي يجريها صفوة من الكتّاب والمثقفين والشعراء والفنّانين الإسبان سواء خلال حكم الجنرال فرانسيسكو فرانكو أو خلال المرحلة الإنتقالية لإسبانيا الحديثة بعد إستلام مقاليد الحكم فى إسبانيا من طرف العاهل الإسباني الحالي خوان كارلوس الأوّل .
خلد هذا المقهى العديد من الكتّاب الإسبان الذين كانوا يؤمّونه فى أعمالهم الإبداعية والأدبية أشهرهم الكاتب الإسباني " كاميلو خوسيه سيلا" الحاصل على جائزة نوبل فى الآداب عام( 1989) فى روايته المعروفة " الخليّة" (1949) التي نقلت إلى السينما بنجاح باهر للمخرج الإسباني " ماريو كاموس" ،حتى ولو أطلق على هذا المقهى فى الفيلم إسما آخر وهو " لاديليسيا"، و كاميلو سيلا هو صاحب الرواية المعروفة كذلك " عائلة باسكوال دوارتي" وسواها من الأعمال الروائية الأخرى المعروفة .
وتنظمّ فى هذا المقهى جائزة أدبية هامّة تحمل إسم "مقهى خيخون" ،الذي يقف شاهدا على عصر بأكمله فى تاريخ إسبانيا المعاصرالحافل بالأحداث والتقلّبات والتطوّرات الذي يمتدّ إلى قرن ونيّف من الزمان ولّى . وقد وضع الكاتب الإسباني "مارينو غوميس سانتوس" كتابا موفيا عن تاريخ مقهى خيخون عام 1955 ، كما وضع الباحث الإسباني " ماريانو توديلا" دراسة مستفيضة حول نفس المقهى بمناسبة الذكرى المائوية لتاسيسه ، كما نشر الكاتب فرانسيسكو أومبرال كتابا تحت عنوان : " ليلة وصولي إلى مقهى خيخون" بالإضافة إلى تعرّض العديد من كبار الكتّاب الإسبان لهذا المقهى فى مختلف أعمالهم.
وبعد أن أخذ هذاالمقهى حظه فى الذيوع والإنتشار ، وإستلم الزعامة فى هذا المجال من مقاه أخرى كانت لها قصب السبق فى هذا المضمار من قبل فى مدريد أجريت عليه تحسينات كبرى منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، فوضعت بداخله الطاولات المرمرية الشهيرة. وبدأت منذ ذلك الإبّان التجمّعات الأدبية، والحوارات الفكرية ،والأمسيات الشعرية ،والجلسات السياسية ،ودردشات محبّي مصارعة الثيران ولعبة كرة القدم ، من الأدباء والمشاهير الذين كانوا يغشون هذاالمقهى قبل كاميلو خوسيه سيلا بسنين، العالم الإسباني الكبير رامون إي كاخال (حاصل على جائزة نوبل فى الطبّ 1906)، والكاتب الأسباني العالمي بينيتو بيريث غالدوس ،والكاتب المسرحي اللامع فايّي إنكلان، بالإضافة إلى العديد من الشخصيات الفنية والسينمائية العالمية مثل " إيفا غاردنر" و"أورسون ويلز" "والممثل البريطاني "جورج ساندرز" وسواهم ، كما كانت ترتاد هذا المقهى شخصيات سياسية وعسكرية عالمية ورجال المال والأعمال والجواسيس أشهرهم الجاسوسة الهولاندية الشهيرة "ماتا هاري" التي أعدمها الفرنسيون عام 1917.
وفي العشرينات والثلاثينيات من القرن المنصرم كان أمرا عاديا أن تلتقى فيه بكتاب وشعراء كبار مثل فدريكو غارسيا لوركا ، وسواه من الكتّاب والشعراء ثم جاءت تجمّعات " لقاءات الشعراء" التي كان يرأسها الشاعر "خيراردو دييغو"، وبالجملة مرّ بهذا المقهى مختلف أفراد جيل 1927 الأدبي الإسباني الذائع الصّيت .
مقهى نوفيلتي بسالامانكا
المقهى الأدبي الإسباني الثالث الذي ما زال يفتح أبوابه لروّاده من الادباء والكتّاب والسّاسة والشعراء والفنانين هو مقهى نوفيلتي الكائن بالساحة الكبرى بمدينة سالامانكا( بنيت هذه الساحة على غرار ساحة مدريد الكبرى) يزيد عمر هذا المقهى عن مائة سنة هو الآخر، إذ إفتتح عام 1905 من المشاهير والشخصيات الإسبانية البارزة فى عالم الادب واللفكر والسياسة التي كانت تؤمّ هذا المقهى الفيلسوف الإسباني الكبير " ميغيل دى أونامونو"الذي كانت له إجتماعات وحواريات يومية فيه ، كما كان يرتاده بانتظام المفكر الإسباني الكبير" خوسّيه أورتيغا إي غاسيت" وأنطونيو توبار، وخوان بونيت، وفرانسيسكو أومبرال ، وتورّينتي باجستير، وغارسيا دي لا كونشا (رئيس الاكاديمية الملكية للغة الإسبانية السابق)، ويرتاده اليوم الكاتب البيروفي ماريو برغاس يوسا، كلّما زار مدينة سالامانكا، وسواهم من المشاهير.
وفي هذا المقهى تمّ تأسيس الإذاعة الوطنية الإسبانية عام 1936 ، ولهذا المقهى مجلّة أدبية أسّست منذ 1999 وهي تنشر العديد من المواضيع الأدبية والإبداعية للكتّاب الإسبان خاصة المنتمين لمدينة سالامانكا ، والغريب أنّ هذا المقهى لا يؤمّه فقط الأدباء، بل كان يجتمع فيه كذلك التجّار الكبار وأصحاب الضّيع والمواشي والصناعات الكبرى ، كما يرتاده المحامون والاطباء وأساتذة كرسي جامعة سالامانكا الشهيرة التي تعدّ أقدم جامعة فى إسبانيا (أسّست عام 1218 م)، ولقد أمّه وتعشّى في مطعمه الفاخر العاهل الإسباني ألفونسو الثالث عشر( جدّ العاهل الإسباني الحالي خوان كارلوس الأوّل دي بوربون) ،ومن الشخصيات العالمية التي زارت هذا المقهى كذلك الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر ، والرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران، ومن السياسيين الإسبان البارزين رئيس الحكومة الإسبانية السابق خوسّيه لويس رودريغيس ثاباتيرو، والزعيم الشيوعي التاريخي الإسباني الشهير الرّاحل سانتياغو كارّييّو.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأسس في بعث هواية القراءة

  حسين سونة نشر في  الشرق المغربية  يوم 28/07/2011                                                           قرأت باهتمام مقالا للكاتب محمد...