13 سبتمبر 2013

السعودية.. الخطر الداهم

علي أنوزلا




ما هو أخطر نظام تخيفه إرادة الشعوب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ويزعجه أخذها مبادرة تقرير مصيرها بيدها؟ الجواب البديهي هو أن كل الأنظمة السلطوية في بلدان المنطقة هي التي وقفت وتقف دون تحقق إرادات شعوبها، لكن هناك نظاما واحدا يلعب دور الحاضنة لكل هذه الأنظمة، يدعمها ويحفزها ويحميها ويدافع عن قمعها لشعوبها، ويأوي دكتاتورييها الهاربين، ويعالج المعطوبين منهم، ويدافع عن المعتقلين منهم، إنه نظام الأسرة الحاكمة في السعودية.
فعند قيام ما سمي بثورات "الربيع العربي"، تفاجأ الجميع بصحوة شعوب المنطقة وتوقها إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وقد اتضح الآن، وعكس كل ما كان يقال أن تلك الانتفاضات الشعبية التلقائية لم تحركها مؤامرات خارجية، لكنها بالعكس تعرضت ومازالت تتعرض إلى أكبر مؤامرات خارجية وداخلية.

واليوم ومع مرور الزمن بدأت بعض خيوط هذه المؤامرات تتضح، وينكشف من يمسك بها ويحركها عن بُعد. في البداية حاول نظام دولة صغيرة لكن بطموح كبير اسمها قطر أن يكيف هذه "الثورات" لصالح خطه السياسي الموالي لجماعة "الإخوان المسلمين" مستغلا قوة تأثيره الإعلامي وتواجد قيادات روحية لهذا التنظيم في بلاده، فبدأ بالتوجيه الإعلامي لمسار الثورات وضخ الملايين لحلفائه من تنظيمات "الإخوان المسلمين" في مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا لترجيح كفتهم على باقي خصومهم السياسيين.

هذا "التحكم" في توجيه ثورات شعوب المنطقة ما كان ليمر بسلام أمام أنظار أنظمة عشائرية خليجية منافسة ترى في تحرر شعوبها خطرا على وجودها، وترى في دعم "الإخوان المسلمين"، أكبر خطر يتهددها، فتدخلت هي الأخرى لتوجيه "الثورات" لصالحها. وهكذا بدأ "إفساد" الثورات التلقائية للشعوب، عندما تدخلت أنظمة الأسر الحاكمة في السعودية والإمارات والكويت لنصرة أتباعها من التنظيمات السلفية وصنعت لها أحزابا من عدم، مدتْها بالمال والدعم الإعلامي في الانتخابات التي شهدتها تونس ومصر لترجيح كفتها ضد خصمها الرئيسي "الإخوان المسلمين" أصحاب فكر "الأممية الإسلامية" الذي يحلم بإقامة "الخلافة الإسلامية".

لقد سعت دول الخليج وخاصة النظامان القطري والسعودي، منذ هبوب رياح "الربيع العربي" لتقويض هذا الربيع. النظام القطري تدخل إعلاميا وماديا وحتى عسكريا في ليبيا وسوريا لترجيح كفة حلفائه من "الإخوان المسلمين" في المنطقة. وتدخل النظام السعودي عسكريا لقمع انتفاضة شعب البحرين، ودفع ماليا لإجهاض الثورة الشعبية في اليمن، وأنفق مليارات الدولارات للتأثير على الانتخابات الديمقراطية في تونس ومصر من خلال تشجيع "الإسلام السلفي" المرتبط بالفكر الوهابي السعودي، وتدخل ميدانيا في سوريا من خلال المليشيات الدينية المتطرفة التي باتت تصنف دوليا على لائحة "التنظيمات الإرهابية".

ومؤخرا نزلت السعودية بثقلها المالي والديني والدبلومسي، لدعم العسكر في مصر. في البداية كانت أول من رحب بـتدخل الجيش و"الانقلاب" على الحكم المدني "الاخواني"، وبادرت هي ودول خليجية، خاصة الإمارات، إلى رصد نحو 12 مليار دولار لدعم "التحول" العسكري في مصر. وبعد المجزرة التي ارتكبها الجيش أثناء فض اعتصام أنصار مرسي بميدان "رابعة العدوية" بعث الملك عبد الله بن عبد العزيز برسالة صوتية لمساندة حرب الجيش ضد "الإرهاب". وعلى إثر ارتفاع حدة الانتقادات الغربية لطريقة تعامل الجيش مع احتجاجات "الإخوان المسلمين" ومناهضي حكم العسكر، طار وزير خارجية السعودية وهو أقدم وزير خارجية في العالم، سعود الفيصل إلى باريس للضغط على الأوربيين وصرح هناك بأن بلاده تضع مواردها المالية وثقلها الديني كزعيمة للمسلمين السنة في العالم، ونفوذها السياسي لدعم العسكر في مصر.

---

موقف السعودية هذا، لا يحتاج إلى كثير من التفكير لفهمه، فبالنسبة للنظام السعودية هناك نوعان من التهديدات الإستراتيجية يعتبرها خطرا على وجوده: إيران و"الإخوان المسلمون". لذلك سعى هذا النظام الأسروي إلى استعادة زمام الأمور في المنطقة كلها، فأعاد الإمساك بالورقة السورية ليستعملها في صراعه ضد النفوذ الإيراني، ودعم الجيش المصري لإجهاض حكم "الإخوان المسلمين" لأكبر بلد إسلامي في المنطقة. كل هذا تزامن مع "الانقلاب الأبيض" داخل بيت الأسرة الحاكمة في قطر عندما أُبعد الأمير السابق لهذه الإمارة المزعجة للسعودية، وتم التخلص من رأس النظام القطري السابق الذي كان يمثله رئيس وزراء ووزير خارجية قطر السابق، الذي لم يكن يخفي دعمه لـ "الإخوان المسلمين"، ويقدمهم للغرب كشريك براغماتي، وذلك في أفق دعمهم لطموحه في تولي الإمارة الغنية بالغاز والبترول. وليس غريبا أن يتوارى الرجل فجأة عن الأنظار منذ تنفيذ "الانقلاب الأبيض" داخل بيت الأسرة والذي يقال إنه تلقى خبره وهو في عرض البحر على ظهر يخته، ومنذ ذلك التاريخ لم يعد إلى الإمارة ولم يظهر في حفل مبايعة الأمير الجديد تميم بن حمد، ومع ذلك فهو مازال يعتبر المتحكم في "الصندوق" الإعلامي للإمارة (قناة الجزيرة) التي بقيت موالية لـ "الإخوان المسلمين" في مصر في تناقض واضح مع المواقف التي تعبر عنها الخارجية القطرية الجديدة التي باركت "انقلاب" العسكر على الرئيس المدني محمد مرسي "الإخواني".

هناك من سيقول إن هذه الأوضاع كانت قائمة قبل سنتين، فما الذي أخر تحرك النظام السعودي لاحتواء الأوضاع في المنطقة لصالحه والخروج عن "تريثه" الدبلوماسي التقليدي للدفاع عن مصالحه وطموحاته بدون مواربة ؟

ثمة أكثر من مستجد دفع السعوديين إلى الخروج عن تحفظهم، ولعل أهم سبب هو انتخاب شخصية براغماتية على رأس النظام الإيراني لا تخفى سعيها إلى تطبيع علاقاتها مع الغرب مما قد يخفف الضغط الغربي على طموحات إيران التي يتوجس منها النظام السعودي، وجاء إعلان "حزب الله" الذي لا يخفي ولاءه لإيران في الحرب السورية ليزيد من مخاوف السعوديين من خطر اتساع حلقة "الهلال الشيعي". الحدث الآخر الذي أخرج النظام السعودي عن تحفظه تمثل في تمكن الأحزاب المنتمية إلى جماعة "الإخوان المسلمين" من الوصول للسلطة في بلدانها بطرق ديمقراطية في تونس ومصر، أمام هزيمة التيارات السلفية التي تدعمها السعودية. لكن، تبقى التحولات الكبيرة التي يشهدها النظام السعودي من الداخل ذات تأثير كبير على تصرفه الأخير. فقد وصل هذا النظام إلى نهاية دورته الأولى، المتمثلة في تداول السلطة بين أبناء عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة، حيث يعتبر الأمير سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد الحالي آخر أبناء الملك المؤسس الذين كانت تؤول إليهم الولاية والملك بطريقة تدريجية حسب السن. وخلف هؤلاء الأبناء الملوك والأمراء يوجد جيش من الأمراء أصحاب المطامح الكبيرة في تولي الملك في غياب أية آلية تنظم انتقاله بعد وفاة آخر أبناء الملك المؤسس. ومن بين هؤلاء الأمراء الطامحين يبرز بقوة اسم بندر ابن سلطان، رئيس المخابرات السعودية، الذي يعتبر اليوم أقوى رجل في السعودية بعد خالد التويجري، رئيس ديوان الملك الحالي المريض، وبما أن التويجري ليس من سلالة الأسرة المالكة فإن نفوذه سينتهي بنهاية سيده، فيما لا حدود لطموحات رئيس المخابرات الذي يستعمل اليوم علاقاته الواسعة مع أجهزة مخابرات غربية وعربية، وقد ظهر هذا جليا في سعيه لتوجيه الأزمة السورية نحو المسار المأساوي الذي تمر به، لدرجة أن صحفا أمريكية مشهود لها برزانتها ومصداقيتها كتبت أن هذا الأمير هو الذي يضغط على الإدارة الأمريكية مستغلا النفوذ السعودي وضعف سلطة الملك المريض، لجر أمريكا إلى حرب جديدة في سوريا، تماما كما فعل عندما استغل مرض الملك الراحل فهد بن عبد العزيز، في مطلع تسعينات القرن الماضي، لإقناعه بـ "كذبة" أسلحة الدمار الشامل التي ابتدعها المحافظون الجدد في أمريكا، لفتح أرض الحجاز أمام قوات المارينز الأمريكية في طريق غزوها للعراق.

إن ما يفرض هذا الدور المتعاظم للسعودية اليوم هو وضعها كأول منتج ومصدر للنفط في العالم، إلا أن ما يقوي نفوذها هو كونها تعتبر بعد إسرائيل، أهم حليف لأمريكا بالمنطقة رغم أن واشنطن والرياض لا تشتركان في القيم وإنما في المصالح الإستراتيجية.

طيلة العقود الماضية سعت أمريكا إلى أن تجد توازنا بين تأمين إمداداتها من النفط من الشرق الأوسط، وفي نفس الوقت الحفاظ على استقرار منطقة تعيش في دوامة عنف غير منتهية.

هذه المعادلة الصعبة كان يمكن حلها بدعم قيام أنظمة ديمقراطية، لكن هذا بالضبط ما لا تريده حليفتها الأسرة الملكية الحاكمة في السعودية التي تنفق المليارات من أجل إفشال كل محاولة لقيام أنظمة ديمقراطية. فعلت ذلك في لبنان منذ عقود وتفعل ذلك اليوم في مصر، وتونس واليمن والبحرين وتدعم أنظمة سلطوية في الأردن والمغرب لتشجيعهما على قطع الطريق على كل محاولة لدمقرطة بلديهما.

وحتى عندما حاولت الولايات المتحدة الأمريكية "تصدير" نمط الحكم الديمقراطي، حتى لا نقول "الديمقراطية"، إلى بلد مثل العراق سعت السعودية من خلال دعمها لجماعات عنيفة إلى المساهمة في إشعال حرب أهلية بين الشيعة والسنة الذين لا يخفى النظام السعودي دعمه لهم.

فالسعودية كمصدر لإيديولوجيات دينية، يسميها البعض "الإسلام النفطي"، تغذي الجماعات المتطرفة في العالم الإسلامي، تدعم بشكل غير مباشر هذه الجماعات، وتتغاضى عن جمع الأموال التي تصلها من السعودية، وتغض الطرف عن التحاق مئات المقاتلين السعوديين بصفوف القاعدة في العراق وسوريا واليمن، وقبل ذلك في أفغانستان والشيشان.

فالنظام السعودي يطرح نفسه كحليف لأمريكا فقط عندما يتعلق الأمر بمواجهة النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، ويتحول إلى خصم لها عندما أبدت السعودية مخاوف واضحة من تجارب ديمقراطية فتية كما حصل مؤخرا في مصر، وقبلها في العراق وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة. فالتحالف الأمريكي السعودي يقوم على التهديدات المشتركة التي تواجههما وليس على القيم التي لا يتقاسمانها.

فلو لم يكن النظام السعودي حليفا لأمريكا، ما كان له أن يعترض بالدبابات ليقف ضد انتفاضة الشعب البحريني، ويتدخل ماليا للتأثير على الديمقراطة الناشئة في تونس، ويساند ماديا ومعنويا تعطيل المسار الديمقراطي في مصر، ويدعم ماليا النظام في المغرب للنكوص عن وعوده الإصلاحية. لقد رأينا كيف تناسى النظام السعودي خلافه التاريخي مع النظام الملكي الهاشمي في الأردن، وسانده ماديا إبان فترة الربيع العربي، كما تدخل ماليا أيضا لاستمرار النظام اليمني الذي لا ينسى آل سعود أنه وقف ضدهم مع صدام حسين، لكن مملكة آل سعود أحست بالخطر الذي قد يداهمها من خصرها فتدخلت لإنقاذ نظام الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح الذي كان يترنح. فهل كانت أمريكا ستسمح أو على الأقل ستتغاضى على مثل هذه "التدخلات" لو جاءت من النظام الإيراني؟

هنا تكمن المفارقة. فالتحالف السعودي الأمريكي هو الذي يمنح السعوديين الضوء الأخضر للتدخل في العديد من دول المنطقة.

المفارقة أيضا تكمن في كون النظام السعودي يعتبر أكبر حليف للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة وفي نفس الوقت أكبر معارض للإصلاحات الديمقراطية، فإلى متى ستواصل أمريكا الاعتماد على النظام السعودي للحفاظ على استقرار أنظمة المنطقة، في الوقت الذي يدعم فيه هذا النظام بروز أنظمة قمعية ستؤدي إلى سفك مزيد من دماء شعوبها وتهدد استقرار دولها؟

---

إن المراهنة على نظام أسري مثل النظام السعودي سيكون حتما ضد الشعوب وربما ضد مصالح أمريكا نفسها، والأخطر من ذلك فهذا النظام بدعمه لجماعات دينية راديكالية يقوض كل امكانية لولادة الديمقراطية في المنطقة.

لذلك يجب المراهنة على ارتفاع منسوب النضج السياسي للشعب في الخليج، وخاصة الشباب، وتراجع احتياجات أمريكا لنفط المنطقة التي توفر الآن 8 في المائة من احتياجات أمريكا لهذه المادة الحيوية، وهذه ستكون من بين العوامل المحددة كي تعيد أمريكا النظر في علاقاتها مع النظام السعودي الذي قد يصبح التحالف معه مكلفا مع مرور الوقت، لأن المنابع الإيديولوجية والمادية للجماعات التكفيرية توجد في السعودية، وهذا الزواج الكاثوليكي ما بين النظام السعودي والإيديولوجية الوهابية بات يشكل أكبر عائق للتقدم الديمقراطي في المنطقة، وقد يشكل أكبر تهديد للاستقرار، ليس في المنطقة غير المستقرة أصلا، وإنما في العالم. فمن رحم هذا الزواج خرج إبن غير شرعي اسمه "تنظيم القاعدةّ" الذي مازال يتناسل بحرية وخارج إطار أية شرعية مخلفا أبناء غير شرعيين في العراق واليمن وشمال افريقيا والصومال وسوريا ومنطقة الساحل الإفريقية، ولا شيء يمنع من أن يخرج من رحمه غدا الوحش الذي يصعب التحكم فيه.

بالنسب للشعوب العربية وقواها الديمقراطية، لا يجب أن تراهن كثيرا على أمريكا والغرب، فهما معا سيكسبان القليل إذا نجحت الثورات العربية، ولكنهما سيخسران الكثير إذا ما امتدت رياح هذه الثورات إلى الأنظمة المحمية من طرفها وعلى الخصوص الأنظمة النفطية في الخليج.

لقد كان الاعتقاد سائدا بأن أي تغيير يمس مصر يمكن أن يؤثر في دول المنطقة بحكم ثقلها الإستراتيجي وكثافتها السكانية وقوة تأثيرها الثقافي، لكن ما اتضح اليوم هو أن أي تغيير حقيقي في المنطقة يجب أن يبدأ من شبه الجزيرة العربية، ليس لأنها مهد الرسالة الإسلامية، وإنما لوجود أنظمة أسرية متحالفة فيما بينها تتربع على أكبر ثروة في العالم، لا تريد أن يحدث أي تغيير يمس مصالحها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الأسس في بعث هواية القراءة

  حسين سونة نشر في  الشرق المغربية  يوم 28/07/2011                                                           قرأت باهتمام مقالا للكاتب محمد...